كتابة على الهامش | قصّة

 

يسمع جبران همسًا ليس بغريب تمامًا، لكنّه لا يدركه. يجول في الغرفة محاولًا معرفة المصدر. يتحرّك نحو ساعة الحائط، قبل أن يتفقد جوارير خزانة الملابس، ثم يطلّ من الشباك، فيصير الكلام أوضح. يتنحنح صاحب الصوت ثمّ يقول: "أنا لا أريد اتّباع هذا الطريق يا سيّدي".  يردف: "دعني أستمرّ بما أرغب، فإنّها تروق لي جدًّا. إنّني أظنّها قدري". يسكت ثانيتين، ويكمل بنبرة خجولة: "أنا متأكّد؛ قلبي يقول هذا. أريد الذهاب نحوها، وأن أكمل مشواري معها في هذه الحياة الّتي تكتبها". ينهي الصوت حديثه بسؤاله: "لماذا توقفني هنا؟"

يحدّق جبران بأوراق روايته التي كان يخطّها قبل ساعات مدهوشًا بما يتراءى أمامه. ينظر إلى كلماتٍ تُكتب من تلقاء نفسها على الهامش، ويسمعها بصوت بطل روايته الّذي تخيّله. يعيد قراءة ما كتبته الشخصيّة الروائيّة، فهو من الدهشة لَمْ يتثبّت كلّ الحديث. يزيح كرسيّه نحو الوراء، ويجلس ممسكًا بأوراقه يقرأها مرّة أخرى. يشرع في استذكار ما كتبه في الأقسام الأربعة من الرواية.

الآن: يرجوه صاحب هذه الشخصيّة أن لا يكمل المسير فيما يشاء جبران. قبل ساعات: أوقفه مع فتاة صنعها له في الأحداث كي تدلّه على مَعْلَمٍ سياحيّ في المدينة حيث كان يزورها رفقة أخيه.  وأعاد لقاءه بها صدفة أثناء عودته ليتناول بوظة في الساحة الّتي مرّ من خلالها بها. يقوم جبران بإنطاق الشخصية المرسومة غير الجريئة مجريًا حديثًا شيّقًا مع فتاته. في تلك الأثناء يجول في مخيّلته افتراض أنّها مبتغاه ومراده، كتب جبران بصوت الشخصيّة: "طفلٌ قلبي – عندما ضحكتّ – صار كأنّه للمرّة الأولى يسمع جرس الكنيسة". ثمّ يحدث ما لم يتوقعه البطل. أوقفه جبران عند هذا الحدّ، ولم يركض به نحو الحائط. لم يعلّق مصيره بها أو يغرقه في تفاصيل الشخص الآخر.

قال جبران بصوت مسموع: "الحياة ليست وردية. هذا حنين مؤقّت يا رفيق". فكّر فيما إذا أدرك بطله ما قاله. مضت نصف دقيقة دون ردّ. أمسك بقلمه وكتب الجملة نفسها ليرى في الهامش كلمات تكتب وبشكل سريع: "هيه أنت، لا يهمّني لقبك، وإن كنتَ إلهي فأنا كافر بك. أعلم أنّك تستطيع قتلي بأيّ لحظة، أو التخلّص منّي. إن كنت تكرهني فإنّني لا أريد شفقة منك، أنهِ حياتي. لكن إن كنت تريد منّي الاستمرار في هذه الصحفات – أقصد الحياة، فاجعلني أذهب حيث أريد، إن كان موتي في الذهاب هناك فاتركني وشأني، لا تحييني في حالة اطمئنان، وندم على الانزياح". يردّ جبران: "أنا أعلم منكَ"، يقرأ الردّ في الهامش: "أنت لا تدري فيما أشعر به. أنت تكتب، أما أنا فأحبّ". صرخ جبران بوجه أوراقه: هذه نهاية مزيّفة! تناول قلمه الأحمر، وشطب العديد من الأسطر، ثمّ كتب: "نزل في الماء محاولاً إنقاذ أخيه. كان الموج أشدّ مما توقّع، وكلّما اقترب منه كان يحسّ أن المسافة نحوه تزيد أكثر. أمضى دقيقتين في الوصول إليه. كان خلالهما يدعو الله أن ينجح في الوصول في الوقت المناسب. حاول إبعاد الأفكار السوداوية الّتي انهالت عليه خلال هذه الفترة الّتي تراءت له أنها دهرٌ من الزمان. أخوه الّذي أمضى ثلاثين ثانية في المقاومة استسلم في نهاية الأمر وأمضى تسعين أخرى قبل أن تمتدّ يد الإنقاذ إليه. تسعون ثانية فصلت بين حياته وموته، و لم يَدُرْ في خلده أنّ مجرّد رقم تافه كهذا من الزمن قد ينجح في أن يأخذ منه ابن أمه وأبيه. سحبه حتّى الشاطئ، وحاول إسعافه رغم يقينه أنّه ميّت. هذا الأمل المبرّر في أن تحدث معجزة رغم أنّه ليس نبيًّا. هكذا صار بلا أخ. ليصير الوحيد من عائلته الّتي أمضى لحظات حياته معها".

ينظر جبران لما كتب، يبتسم ابتسامة بين الرضا والمكر، ثمّ يكتب على الهامش: "هكذا تعيش القصص، فالمأساة تتخلّد في ذاكرة القارئ". قلبَ الصفحة، ثمّ باللون الأزرق كتب: «القسم الخامس» وتلاها بثلاث نقاط. حكّ جبينه فانتبه إلى الهامش يُكتبُ فيه: «جنازة».

 


 

أحمد جابر

 

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في «هندسة الطرق والمواصلات». حائز على جائزة مؤسّسة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» (2017)، عن مجموعته القصصيّة «السيّد أزرق في السينما».